كورونا مسؤولية الأثرياء

شارك

facebook icon twitter icon whatsapp icon telegram icon

غادة حدّاد

أسواق وول ستريت تتراجع، والأسواق العالمية انهارت بنحو 30٪ منذ بداية العام في معظم الدول الغنية، أسعار النفط تتدنى إلى مستويات تاريخية، الاقتصاد العالمي يترنح؛ فيما الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية تقف على باب أزمة اقتصادية وركود من المتوقع أن يكونا أشد من أزمة عام 2008. أعداد المصابين بكورونا تزداد في وتيرة سريعة في هذه الدول، فيما ينتظر الرئيس الأميركي أسبوعاً قبل إعلان العودة إلى العمل، فالألف دولار التي تدفع لكل فرد من أجل أن يستهلك، كي لا يقع الاقتصاد في ركود، ليس بالحل طويل الأمد، علماً أنّ الربح أكثر أهمية من الإنسان في معجم الرأسمالية.

الأزمة الاقتصادية المرتقبة هي أزمة الائتمان، وقد سارعت الحكومات الغربية والبنوك المركزية إلى اتخاذ إجراءات حاسمة عبر توفير ضمانات القروض، والسيولة الإضافية، وتسهيل الحصول على الائتمان للشركات وكذلك المدفوعات وغيرها من التدابير لعزل الشركات والأفراد. في وقت تتحمل البنوك المسؤولية الأكبر عن أزمة عام 2008، ينظر إليها الآن بسخرية على أنها منقذ محتمل في المناخ الحالي، إذ تطلب الحكومات منها أن تكون بمثابة "آلية انتقال" للتأكد من أن الأموال تجد طريقها إلى الشركات والمستهلكين حتى تتحسن الأمور.

شبح المرض اجتاح إيطاليا وإسبانيا، والاتحاد الأوروبي تخلى عنهما. فما كان من حكومتي الصين وكوبا إلا إرسال أطقم طبية ومساعدات لإيطاليا. والصين التي انتشر منها الفيروس استطاعت التعامل معه وحدت من عدد الإصابات والوفيات، وتحاول اليوم مساعدة دول أخرى لهزمه؛ فيما كوبا التي لم تتوان يوماً عن مساعدة الدول اللاتينية طبياً، كان قائد ثورتها فيديل كاسترو قال في خطاب له: "إن بلدنا لا يرمي قنابل على الشعوب الأخرى، ولا يرسل آلاف الطائرات لقصف المدن. لا توجد في بلدنا أسلحة نووية أو كيميائية أو بيولوجية.. في بلدنا عشرات آلاف العلماء والأطباء الحساسين لفكرة إنقاذ الأرواح، وسيكون من المنافي تماماً لمفهومهم أن يقوم عالم أو طبيب بإنتاج مواد أو بكتيريا أو فيروسات تتسبب في موت بشر آخرين. لقد قدم عشرات آلاف الأطباء الكوبيين خدمات دولية في أكثر الأماكن النائية وغير المضيافة... ويمكن لبلدنا إرسال الأطباء الضروريين إلى أكثر الزوايا المهملة في العالم".

الدول الرأسمالية تخلت عن بعضها، وتخلت عن شعوبها، فيما فضح هذا الفيروس هشاشة الأنظمة الطبية في دول عديدة، في وقت وقفت حكومات عدة عاجزة أمام المعضلة المعيشية للمواطنين، خاصة بعد فرض الحجر المنزلي لتجنب انتشار الفيروس. فكان السؤال الأساسي "كيف سيأكل الناس؟". حتماً لا جواب. تسارع الأغنياء إلى التبرع للأسر المحتاجة، تساهلت الحكومات في جني الضرائب، فيما أمّم بعضها مستشفيات وفنادق.
يمر خبر توزيع الناس ضمن مربعات رسمت على الأرض في بؤرة لركن السيارات في لاس فيغاس مرور الكرام. الأغنياء ينامون في أسرتهم الفاخرة، والفقراء يفترشون الطرق. صبغ الرومانسية على فكرة الحجر والتباعد الاجتماعي مفهوم خلقه ونشره بخفة من لا يقلقون من بطونهم الفارغة. هؤلاء الذي يملكون سقوفاً عدة تقيهم البرد والحر، ثلاجتهم مليئة بشتى أنواع الطعام الفاخرة، هواتفهم حديثة، وطائراتهم الخاصة ويخوتهم جاهزة للانطلاق في أي لحظة يشعرون فيها بالملل. تجميل صورة الحجر انعكاس لفوقية أصحاب المال. ينظرون باشمئزاز لمن كسر قرار الحجر، لكن حقاً كيف سيأكل الفقراء؟ لا يهم، المهم صحتهم هم، وحياتهم التي يتوقون إلى العودة إليها. هل القطاع الطبي قادر على استيعاب الأعداد التي ستصاب بالفيروس؟ لا يهم، المهم أنهم سيتلقون العلاج.

وقف العالم أمام أسئلة ملحة: الصحة، الغذاء، المسكن، العمل، البيئة، الاتصال والتواصل، هل هي خدمات؟ هل هي ترف لمن استطاع تحمل تكلفتها؟ أم هي حاجة؟..وفق هرم ماسلو، الحاجات الفسيولوجية تأتي في قاعدة الهرم، أي إنها الأساس، ويوم تخضع هذه الاحتياجات لأهواء شركات خاصة وأفراد، تصبح سلعة خاضعة لقوانين السوق، وحسابات الربح والخسارة؛ فيما الحاجة هي واجب على الحكومات تأمينها لتصل إلى الجميع دون تمييز.. ترك تأمين الحاجات لقدرة الأفراد ألبسته ثوب الحرية، فيما الحرية تختلف حسب الموقع الذي يقف الفرد فيه، فالفقراء حريتهم تعني حرمانهم اجتماعياً وثقافياً، وهي بالنسبة لهم ما كان يعتبر سابقاً حاجة إنسانية أساسية.
في "مخطوطات عام 1844 الاقتصادية" أكد ماركس أنه حتى الحاجة إلى الهواء النقي تتوقف عن كونها حاجة للعامل. يعود الإنسان مرة أخرى للعيش في كهف، لكن الكهف ملوث الآن جراء النفس المقزز والوبائي للحضارة. علاوة على ذلك، ليس للعامل أكثر من حق غير مستقر في العيش في هذا الكهف، مع أن هناك قوة غريبة بالنسبة له يمكن أن تسحبه منه، فإن أخفق في الدفع سيطرد منه في أي وقت...

الأزمات الإيكولوجية التي يمر بها الكوكب أتت كردة فعل على جشع الرأسمالية واستغلالها المدمر للطبيعة ومواردها، فيما تتسابق الاقتصاديات الكبرى والشركات متعددة الجنسيات على الإنتاج الكبير والسريع، ولأجل هذا الهدف لا مشكلة في استغلال البشر والبيئة. الضعف التاريخي للبشر أمام البيئة قابلوه بتعدٍّ عليها بهدف تدجينها، وإن كسب الإنسان مرة، فهو يخسر مرات أخرى. وحسب فريديرك إنجلز "دعونا لا نمدح أنفسنا أكثر من اللازم بسبب انتصاراتنا البشرية على الطبيعة. لأن مع كل انتصار من هذا النوع تقابله الطبيعة بانتقام منا. صحيح أن كل انتصار يحقق في المقام الأول النتائج التي توقعناها، ولكن في المركزين الثاني والثالث له تأثيرات مختلفة وغير متوقعة تماماً، غالباً ما تلغي الأول"، ويذكر أنه في كل خطوة لا نحكم بأي شكل من الأشكال على الطبيعة مثل محتل على شعب أجنبي، مثل شخص يقف خارج الطبيعة، "ولكننا، مع اللحم والدم والدماغ، ننتمي إلى الطبيعة، ونتواجد في وسطها، وكل إتقاننا لها يتألف من حقيقة أننا نمتاز على جميع الكائنات الأخرى بالقدرة على تعلم قوانينها وتطبيقها بشكل صحيح".
الاستعمال والاستفادة من الطبيعة بشكلٍ متهور ولا عقلاني بغية مراكمة الأرباح للقلة سمة أساسية من سمات نمط الإنتاج الرأسمالي.. استخدام القيم المقدمة لنا عبر الطبيعة لتلبية احتياجاتنا الطبيعية لا قيمة له في الرأسمالية: قيم الاستخدام لا علاقة لها بالرأسمالية باستثناء أنها "قابلة للبيع"، أي إنه فقط إذا كان لديهم قيمة تبادلية، ما يسمح بتحقيق قيمة فائضة أو جزء من وقت العمل الضروري اجتماعياً الذي يذهب إلى إنتاج السلع، بالإضافة إلى ما يحتاجه العامل لاستنساخ عمله، والذي عندما يتحقق من خلال التبادل يصبح الربح.

انتظار انتهاء الحجر والتغلب على كورونا تقابلهما آمال بعودة الحياة إلى طبيعتها.. فيما ما كان يعتبر طبيعيا أفضى إلى أزمة فضحتها كورونا: غياب الرعاية الصحية في مختلف دول العالم، المستشفيات الخاصة أقفلت أبوابها أمام الناس، فيما بقيت المستشفيات الحكومية مفتوحة أمامهم، خاصة الفقراء، تمركز الثروة بيد القلة أوقع الحكومات في أزمة تأمين الغذاء للجميع، فيما منع الناس من مزاولة عملهم، فبقوا أمام احتمالين، إما الموت جوعاً أو الموت بكورونا. بهدف إبقاء عجلة الاقتصاد الأميركي تعمل، ترامب يريد إعادة الناس إلى عملهم بغض النظر عن التداعيات الصحية على المواطنين.
فمن يجب أن يدفع ثمن كورونا؟ تلك الطبقة التي استحوذت على قيمة عمل الشعوب، التي دمرت البيئة واستنزفت مواردها، وراكمت الثروات في حساباتها المصرفية.. الطبقة التي تثور الأرض عليها، وتأبى إلا أن تحمل الفقراء نتائج الأزمة من صحتهم ومالهم مستقبلهم؟.. هم لن يدفعوا بإرادتهم، بل سيجبرون على رد ما أخذوه، فيوم لا يبقى للشعوب ما يخسروه، حتى صحتهم، لن يرحموا من قتلهم ليعيش.